من أين تبدأ عملية إصلاح الفقه؟
يرى المفكر المغربي ادريس هاني انه لا يفتر الحديث في عصرنا عن الإصلاح في مجال الفكر الديني والشريعة، وقد ازداد هذا الاهتمام لما كان لسوء الفهم الديني من آثار على الاجتماع البشري، فالدين مثل مادة كيميائية إن لم يتمتع أصحابها بفهم لأسرار الكيمياء وحسن تدبيره فسنكون أمام مخاطر الخلط بين المواد القابلة للانفجار.
ادريس
هاني: السؤال الذي يفرض نفسه "ما هي مقدمات اصلاح الفكر الديني وشروطه وعتبته
وإمكاناته وآلياته"؟
بينما
يتطوّح دعاة الإصلاح في مسألة موقع العقل من الشرع وهو مبحث قديم عند الحكماء، كان
من المفيد أن نوضّح أمورا من دونها سيدور الأمر دورانا ليعود إلى مكانه دون أن يحدث
أي جديد أو تقدّم..وجب التذكير أنّ الكلام الإسلامي لا زال مترددا حيال دور العقل الملازم
للشرع فهما وتأويلا حيث لا فكاك بينهما حتى حينما نتحدث عن مساحة الاعتبارات والسيرة
العُقلائية، لأنّ العقل حاضر أوّلا وأخيرا، أقصد ضرورة الحسم في مسألة قاعدة الحسن
والقبح العقليين والذاتيين..فلا أجد أي أهمية للخوض في إصلاح "فقه الفقه"
إذا لم نحسم في هذا الأمر المسكوت عنه..ومن رفض التحسين والتقبيح العقليين فلن يكون
حقيقا بإرساء معالم العقلانية في الفكر الإسلامي.
ثم
ما وجب أن يدركه الكثيرون وهي من المباحث التي لا زالت لم تعالج كلاما وأصولا على نحو
واسع، وهي أنّ العقل في نظري هو الأصل في الخطاب والتّلقّي..فالنّصوص فضلا عن الاستبطان
تؤكّد على أنّ أوّل ما خلق الله: العقل..أنطلق من هذه الحقيقة للتأكيد على حقيقة اخرى
وهي أنّ الشريعة هي آخر ما يأتي في تراتبية الإلزام لأنّ الشريعة لم تأت لتزاحم العقل
بل لكي تملأ الفراغ الذي يتركه عدم قدرة العقل على تغطية كلّ لوازم الفعل الإنساني..تأبى
حياة الاجتماع البشري الفراغ، فيقوم التعاقد وهو المساحة التي يحتلها الاعتبار..بل
إنّ الشريعة وإن ملأت فراغات حكم العقل والعقلاء فهي حافظت على مستوى تدبير الاعتبارات
على العقل وسيرة العقلاء في ضبط المعنى واعتبار العنايات اللغوية والعرفية، فجعلت فهم
الشريعة نفسه لا يتجاوز حدود العقل والمعقول..مجال الاعتبارات هو مجال المصالح والمفاسد،
والذي يضبط هذه المقاصد هو العقل والمعقول وفق قواعد معتبرة..ليس من الضروري أن نوغل
في معرفة طبيعة ملاكات الاعتبارات، لأننا أدركنا أنّ بعض الأصوليين وخلافا لابن سينا
اعتبروا الاعتبار تكوينيا ولكن بتوسط الاعتبار نفسه مما يجعلنا أمام شكل من المفارقة..لكن
يفيدنا ذلك في معرفة أنّ مجال الاعتبارات واسع جدّا ومن العقل أن ندرك أنّ الاعتبار
هو الإمكان المتاح أمام المعقول حين يعجز العقل عن إدراك كلّ ملاكات المصلحة..فالضامن
والضابط في فهم الاعتبارات نفسها وتفهّم وظيفتها وإدراك حدودها هو العقل نفسه..ومن
هنا أستنتج أنّ العقل حاضر في تدبير مجال الاعتبارات، وأمّا القسمة الإجرائية بين العقل
والاعتبارات فهي قد تتجه ناحية سنخية القاعدة العقلية الثابتة والأحكام الاعتبارية
المشروطة بسياقات اجتماعية وتاريخية معينة، لكن العقل حاضر حتى في الأحكام المتحركة
بلحاظ تغير الشروط، فمجال الاعتبارات هو مجال للعقل والمعقول أيضا..
لا
يأتي حكم الشريعة في المرتبة الثالثة بعد العقل في التحقيق والمعقول في الاعتبار أقصد
السيرة العُقلائية بشروطها السوسيو_تاريخية فحسب بل إنّ العقل يحضر أيضا في عملية فهم
منطق اشتغال النسق الشرعي الذي منح بدوره للعقل تدبير عملية التأصيل والاستقراء فيكون
النسق الفقهي نفسه مدينا للعقل أوّلا وأخيرا..إنّ التمييز بين العقل والشرع أو بين
العقل والنقل على النحو الذي جرت عليه العادة في تاريخ التشريع والأصول في الغالب على
مدارس المسلمين يتطلب الكثير من الجرأة في تأمّله..وعليه، فإنّ المرء يُختبر في موقفه
من أصل العقل ووظيفته قبل التشريع ومعه وبعده، وفي الحسم في الموقف من قاعدة التحسين
والتقبيح العقليين والذّاتيين، وإلاّ سيكون مطلب الإصلاح قاصرا وبلا جدوى إن لم نقل
مشروعا مغالطا..
وعلى
هذا الأساس وجب النظر إلى الأحكام التكليفية بوصفها اعتبارية كما ذهب نفر من أهل الأصول،
وما كان اعتباريا فهو مشروع باعتبارات كثيرة يؤثّر فيها الزمان والمكان كما لم يعد
يخفى من آراء مدارس الأصول المتقدّمة، وينضاف إليه الأحكام الأخلاقية لأنّ منظومة الأخلاق
اليوم لا تحسن التمييز بين التكويني والاعتباري في مقام التكليف والإلزام، فالحكم الأخلاقي
اعتباري ناظر في الشروط والسياقات هو أيضا..
ليس
الخطاب الشريعي أولوية في الخطاب القرآني الذي جاء معظمه مثيرا للعقل والمعقول والأفكار
والبراهين الكونية والاجتماعية والاخلاقية، فمعظم القرآن خطاب للعقل البشري وليس التشريع
سوى إكمالا وتعويضا للمساحات التي تتجاوز حدود العقل ويبثّ فيها الاعتبار..فلا فقه
من دون قيام فقه الفقه الذي هو فلسفة الأحكام..ولا طريق لإدراك المنقول إلاّ بإدراك
المعقول..وهنا وجب استيعاب القاعدة المعروفة: ما حكم به الشرع حكم به العقل، من حيث
أنّ ما يحكم به الشرع أمضاه العقل نفسه لجهة الاختصاص والاقتدار، فالعقل هو من اعتبر
الحكم الاعتباري حين عزّ الكشف واقعا، فللعقل أيضا أحكامه الاعتبارية وليس فقط أنه
كاشف عن الواقع بل أيضا هو منشئ لواقع فوّضه للاعتبار العقلائي والشرعي. وأيضا ما حكم
به العقل حكم به الشرع لأنّ الشريعة مسلّمة بحكم العقل والعُقلاء وهي تدرك أنها مكمّلة
لحكم العقل في منطقة الفراغ، أقصد هنا أنّ منطقة الفراغ ليس فقط ما لم يكن فيه للشارع
حكم بل أقصد ما لم يكن فيه للعقل كشف..إن العقل والشرع ليسا متقابلين بل نحن أمام وظيفة
يتناوب في تحقيقها وإنجازها المعقول العقلي والمعقول النقلي..إنّ غاية المعقول والمنقول
واحدة باعتبار سعادة الإنسان..
هذه
الملاحظة تقع في أصل العجز المزمن عن إصلاح مناهج التفكير والاستنباط الفقهي، لأنني
أعتقد أنّنا ما لم نحسم سكويليّا وسكولاستيكيّا الموقف فلسفيا من قضية اتحاد العقل
والعاقل والمعقول وفقهيا مع قاعدة الحسن والقبح العقليين لن نبلغ الغرض..الثّمرة من
قولي هذا: أنّ كل دعوة للإصلاح وجب أن تقف هنا بجدّية، فالعقل حتى حين يعجز عن إدراك
الملاكات التكوينية للمصلحة وحين يعجز عن إدراك الواقع فإنّه يفوّض الأمر للعقلاء للتعاقد
حول المصلحة وللاعتبارات العُقلائية والعرفية وتصبح وظيفته ليست إدراك الواقع بل إنجاز
الاعتبارات ، فالعقل حاضر لكن بمستويين من الحضور: حضور كشف وتحقيق أو حضور إنشاء واعتبار،
فحيثما ولينا وجوهنا سنجد العقل في مستوياته المختلفة..فهو مناط التكليف..فلا غنى عن
العقل، بل كل الشقاء في تركه.
المصدر:
مهر